نظم “الراصد الوطني للنشر والقراءة” في إطار معرضه الوطني السادس للإبداع والكتاب، ندوة: «تمثلات البحر في السرد المغربي» في جلستين، بمشاركة ثلة من الباحثين: د. حميد لحمداني ود. ميلود عرنيبة وذ. عبد العالي كركوب وذ. خولة الزلزولي وذ. عصام ربابي ود. الحسين أوعسري، وذلك مساء يوم الأحد 3 نونبر 2019، بالمركز الثقافي ابن خلدون – طنجة.
افتتحت الجلسة الأولى التي أدار فقراتها الكاتب سعيد موزون بورقة تمهيدية حول الندوة وإشكالياتها، قبل أن يتناول الكلمة الباحث حميد لحمداني الذي ساهم بمداخلة وسمها بـ«تيمة البحر في نماذج من السرد المغربي» حاول من خلالها التركيز على حضور البحر في القصة المغربية من خلال بعض النماذج التي اهتمت بوجهي البحر النقيضين كما في قصة: “لن أسامح البحر” للقاص محمد المعتصم حيث يكون الموقف من البحر عِشقا ويتحول إلى كراهية لأنه كان غادرا. أما في قصة “أمواج” لفاطمة الزهراء المرابط فنقتفي مع وجود البحر وأسوار المدينة العتيقة أثر التحول التدريجي من الكآبة والسوداوية إلى فتح باب الأمل وتغيير الحال. ويكون المسار مشابها في قصتها: “ماذا تحكي أيها البحر…؟”، إذ يصبح الغوص في ماء البحر تخفيفا من متاعب الحياة المعاصرة في جانبها الإلكتروني على الأخص. ونجد البحر في بعض قصص المصطفى كليتي القصيرة جدا يتحول إلى خلفية لحكاية عشقية، كما في قصة “مراكب تغرق”، أو تعطي للبحر صورة تشخيصية، كما هو الحال في قصة “ضفاف” حيث يبدو فيها ماكرا وساخرا ممن تقدم به العمر واستهان بمذكرة يومياته فأغرق أوراقها في البحر. وأخيرا نجد البحر في بعض قصص المرحوم عبد اللطيف الزكري ومنها قصة “البحر”، موطنا لملاقاة الكون وأسرار الحياة المنسية وروضة العشق والشهوة والحلم والفرح.
واستهل الباحث ميلود عرنيبة مداخلته المعنونة بـ«البحر في السرد المغربي التشخيص المذكر في الكتابة بصيغة المؤنث أنموذجا» بالحديث عن حضور البحر في الإبداع النسائي المغربي من خلال المجموعة القصصية “ماذا تحكي أيها البحر…؟” للقاصة فاطمة الزهراء المرابط ورواية “ساق الريح” للكاتب ليلى مهيدرة، حيث رصد تيمة البحر في هذين العملين مركزا على أن البعد المشترك فيهما هو حضور البحر مشخصا في صورة رجل ذكر، تبادله الساردات/ البطلات الحب كما لو أنه رجل. فللبحر في هذين العملين صورة مغايرة مختلفة عن بحار السرود الأخرى، فهو بحر بصفات آدمية ذكورية، والكتابة عنه تتوسل بأسلوب التشخيص الذي كان له حضور بارز في عمليهما، باعتبارهما امرأتين رأتا في البحر ما تراه المرأة في الرجل الحلم، والرجل الملاذ القابع في لا وعيها. حيث شكل البحر لديهما فضاء تتحرر فيه ومعه المرأة من كل قيودها، وتطلق العنان لخيالها وأحلامها، ورغباتها المكبوتة بفعل قسوة الواقع ومرارته من جهة، وبفعل افتقاد قيمة الحب الحقيقي عند الرجل من جهة أخرى.
وتطرق الأستاذ عبد العالي كركوب في مداخلته التي عنونها بـ«الدلالة الرمزية للبحر في السرد المغربي قراءة في رواية “الأفعى والبحر” للكاتب محمد زفزاف» إلى رصد دلالات البحر وبناء المعنى في الرواية باستحضار الفضاء والشخوص وكافة القوى الفاعلة. حيث يتبين أن البحر في رواية “الأفعى والبحر” لا يعد فضاء ماديا جامدا له انعكاس عادي على نفسية الإنسان، بل يحمل دلالة رمزية تجعل منه فضاء ديناميكيا مؤثرا في شخصيات وأحداث الرواية، ويفتح أفق التحرر والانعتاق من القيود، وتتشكل هذه الدلالة بحضور موضوعات مختلفة أهمها الخمرة والأنثى، وبهذا يصبح البحر فضاء شاسعا يسمح بالترفيه عن النفس ويمنحها مساحة للبوح والتعبير عن مشاعر إنسانية نبيلة. ومن خلال رمزية البحر في الرواية عمل محمد زفزاف على تصوير الواقع الاجتماعي الذي يعيشه الإنسان بصراعاته وتناقضاته، أحلامه وتطلعاته، معبرا بذلك عن العديد من القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية، ولا يقتصر زفزاف على تصوير الواقع فقط، بل يتطلع إلى تصوير عالم آخر تتحقق فيه قيم التعايش، وقد شكل فضاء البحر مدخلا إلى هذا العالم المثالي المنشود.
وبعد استراحة قصيرة، أعلن القاص محمد الشايب عن انطلاق الجلسة الثانية من الندوة، التي استهلت بمداخلة الباحثة خولة الزلزولي الموسومة بـ«دلالة البحر في رواية “الأفعى والبحر” لمحمد زفزاف» بالحديث عن حضور البحر القوي في تفاصيل الرواية الدقيقة وفي حواراتها وأسلوبها، مشيرة إلى علاقة بطل الرواية بالبحر حيث انتقل سليمان إلى المدينة البحرية الصغيرة، للاستمتاع بالبحر، فالبحر بالنسبة له هو نبع للحياة وحل لعدة مشاكل. كما وظفت الرواية وجهين متناقضين للبحر فتارة يصور زفزاف البحر رمزا للخبث والقدارة وتارة أخرى يصوره رمزا للنقاء والصفاء والطهارة.
وقد تحدث الباحث عصام ربابي في مداخلته المعنونة بـ«تجليات البحر في الرواية المغربية من خلال روايتي “متاهات الشاطئ الأزرق” لعبد الجليل التهامي الوزاني، و”عين الفرس” للميلودي شغموم» عن آفاق حضور البحر في روايات “متاهات الشاطئ الأزرق” بين التخييب والإرضاء وتمثلات البحر في رواية “عين الفرس” وتطويع العجائبي للتعبير عن الواقع، كما سعت المداخلة إلى ملامسة البحر وتتبع حضوره المتذبذب في هذين الروايتين، إلا أن ذلك لا يمنع حضوره وتأثيره في الروايتين معا، ما يجعلنا على يقين تام بأن البحر في الرواية المغربية جلي وواضح كتيمة بدأت تتشكل داخل مجال أدبي حديث العهد، ولا شك أنه أصبح يمثل مجالا خصبا يمكن لمختلف التيمات أن تترعرع داخله.
أما الباحث حسين أوعسري فقد تناول في مداخلته المعنونة بـ«البحر وإبدالات الكتابة الرواية المغربية رواية “رحيل البحر” لعز الدين التازي مثالا» موضوع البحر باعتباره مكونا من مكونات الخطاب الروائي ساهم في التأسيس لكتابة روائية مغايرة عند عز الدين التازي الذي يعد من الروائيين المغاربة الأوائل الذين شغلهم هوس التجريب. مبينا ذلك من خلال محورين أساسين: أنسنة البحر المتمثلة في إسنادات مجازية، ورمزية البحر الذي اضطلع في الرواية بوظائف عدة أهمها: الاستغلال والمضايقات التي تعرض لها جيل ما بعد الاستقلال.
وقد عرفت الندوة نقاشا مستفيضا حول المحور المطروح ما ساهم في إغناء الندوة وتحقيق الرهان الذي نظمت من أجله، بحضور ثلة من المبدعين والنقاد والإعلاميين والأساتذة والطلبة والمهتمين بالشأن الثقافي/الأدبي.