نظم “الراصد الوطني للنشر والقراءة”، مساء يوم السبت 9 ماي 2015، ندوة في موضوع: “جودة المنتوج الأدبي ورهانات القراءة”، برواق محمد الدريسي للفن المعاصر/ مندوبية وزارة الثقافة (طنجة)، ضمن فعاليات “احتفالية الربيع الثالثة” التي صارت تقليدا سنويا في برنامج “رونق” الثقافي، وتأتي هذه الندوة في سياق محاولة صياغة مشروع متكامل يعكس رؤية جميع الفعاليات والأطراف المسؤولة عن إنتاج الكتاب وإيصاله إلى القارئ، والتطلع لإنتاج كتاب مغربي يستجيب لكل معايير الجودة من حيث مضامينه وصناعته وكذا توزيعه، والتفكير في وسائل جديدة لتشجيع النشر والقراءة بالمغرب.
وعرفت الندوة مشاركة الأستاذ المصباحي (المندوب الإقليمي لوزارة الثقافة) بورقة حدد فيها أسباب العزوف عن القراءة من خلال مجموعة من العوامل المركبة والمعقدة: 1ـ العوامل الثقافية والتربوية وتتجلى أساسا في غياب عادة القراءة داخل الأسرة المغربية، خارج نطاق الكتاب الديني (القرآن الكريم، الحديث، السنة…) وضعف استهلاك المنتوج الثقافي بشكل عام، كما تتجلى في قصور المنظومة التعليمية على تكريس فعل القراءة، كفعل وسلوك داخل المؤسسة المدرسية التي تعتبر المنشأ والمصدر الأساس لتأصيل ثقافة القراءة في المجتمع. 2ـ العوامل السياسية والإدارية والتي تتجلى أولا وقبل كل شيء في غياب سياسة ثقافية عمومية، وفي ضعف بنيات الاستقبال والتنشئة الاجتماعية والولوج للخدمات الثقافية، وأيضا في ضعف آليات نشر وتوزيع الكتاب وكل حوامل المعرفة والثقافة. 3ـ العوامل الاقتصادية والانتاجية وتتجلى في إشكالية جودة المنتوج الإبداعي الوطني. واختتم ورقته بإرجاع أمر تقييم الإنتاج الإبداعي إلى النقاد والإعلام المتخصص والمؤسسات التي تعنى بالنشر والتوزيع، خاصة وأن جل ما يصدر وما يطبع تنعدم فيه الجودة سواء على مستوى الحامل الورقي والمواد، أو على مستوى النصوص التي غالبا ما تغرق في الذاتية والخصوصية الضيقة والركاكة والابتذال، ما يجعل الإقبال عليها ضعيفا، فضلا عن ثمن المصنف أو الكتاب الذي يتجاوز قيمته الثقافية والفنية والفكرية في الكثير من الأحيان.
وحول الموضوع نفسه، أكد الأستاذ إبراهيم الشعبي (المندوب الجهوي لوزارة الإعلام والاتصال بجهة طنجة ـ تطوان) في ورقته، على أن سؤال القراءة يعتبر من الأسئلة الحارة والمقلقة، وأن “الراصد الوطني للنشر والقراءة” أجاب بدقة وجرأة عن هذا السؤال في الأرضية التي قدمها في هذه الندوة، وحمل المسؤولية بشكل مباشر وغير مباشر لكل الأطراف المتدخلة في العملية الأدبية وعلاقتها بالقراءة، كما حمل المسؤولية للمؤسسات المعنية (الثقافة، الاتصال، التعليم) وكان محقا في ذلك، وللتطورات التكنولوجيا (الانترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي)، كما حمل المسؤولية لطبيعة الكتاب والكاتب ذاته. ثم تحدث عن مستويين من الكتب المغربية: كتب تستجيب لمعايير الجودة من حيث المضمون والصناعة والتوزيع، وكتب لا تستجيب في أغلبها لمعايير الجودة السالفة الذكر. متسائلا في ورقته “هل هناك إرادة سياسية لخلق مجتمع قارئ؟” مؤكدا على غياب هذه الإرادة السياسية لخلق مجتمع قارئ، والتي تتمثل في مسألتين معنوية ومادية: اللامبالاة في محو الأمية، رغم المجهودات التي تقوم بها الدولة في هذا المجال، القدرة الشرائية للمواطن والقضاء على الطبقة المتوسطة التي تعتبر ـ في الدول التي تحترم نفسها ـ قاطرة التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. وكذا غياب الاهتمام المادي واختلال الميزانيات المخصصة للقطاعات المعنية وهي ميزانيات هزيلة ومخجلة لهذه القطاعات (الثقافة، الاتصال، التعليم) وأن المجهودات المحمودة تجهض بسبب غياب الإرادة السياسية التي تنعكس سلبا على السياسات في القطاعات المعنية.
في حين تحدث الأستاذ المصطفى كليتي (قاص وفاعل جمعوي/القنيطرة) في ورقته عن الكتاب باعتباره منتوجا تتداخل فيه عدة صناعات، خاصة وأن الكتاب الأدبي بشكل خاص يظل ضعيفا من حيث التلقي والاهتمام (عدد النسخ المطبوعة لا تتجاوز في الغالب 500 نسخة) مقارنة مع ما ينشر من كتب تتمحور حول قضايا الدين والأبراج والطبخ. وأن الكتاب الأدبي كثيرا ما يتعرض للتلف والانشغال في المكتبات والأكشاك دون أن ينتبه إليه أحد، كما أن استسهال الكتابة من طرف بعض الكتاب، خلق فوضى كبيرة في حقل الكتاب والنشر والتوزيع، مشيرا في هذا الصدد إلى انتشار محلات للطباعة لا تتوفر على أية شروط، الأمر الذي يفرز لنا الكثير من الأعمال والمنتوجات الأدبية الرديئة، مقابل منجزات أدبية قيمة وتستحق المتابعة. ولعل تراخي المعايير المتعلقة بالجودة والقيمة الأدبية والفنية من إحدى أعطاب بعض الكتب المغربية، متسائلا إن كان الهاجس التجاري للحرف عاملا آخر مسؤول على إحداث هذه الفوضى المشوشة، كما تحدث عن دور المؤسسات الثقافية وسلبيتها وإن تسترت بورقة الدعم، متسائلا مرة أخرى عن معنى دعم كتاب مغربي وتركه في عتمة الرفوف وبرودة المستودعات.
وقد ركز الأستاذ رشيد شباري (الكاتب الوطني لرونق المغرب) في مدخل ورقته على الشطر الثاني من عنوان الندوة أي رهان القراءة والذي يخفي وراءه إقرارا بواقع أزمة القراءة والتي لا يمكن حصر أسبابها في مؤسسة بعينها، بالنظر إلى تعدد المسؤوليات ذات الصلة كما ورد في أرضية الندوة، ومادام الموضوع مرتبطا بالمنتوج الأدبي فإنها تطرح إشكالية أكثر تعقيدا من صعوبة تحديد معايير قارة وواضحة لقياس جودة النص الأدبي. وفي هذا السياق أشار إلى المجهودات التي تراكمت في مجال النقد الأدبي وهو يتوخى مقاربة النص الأدبي عبر تاريخه منذ “فن الشعر” لأرسطو، مرورا عبر جهود النقاد الذين حاولوا البحث عن معايير علمية موضوعية تنأى عن الانطباعية والذاتية في النقد الأدبي، إن هذه الجهود هي التي تجعلنا نطرح إشكالية الجودة باعتمادها وسيلة أنجع للحديث بشكل موضوعي عن مسؤولية المنتوج الأدبي، في تراجع منسوب القراءة من هذه الزاوية، كما أن استسهال عملية النشر وغياب لجان القراءة (ولا نقصد بها هنا الرقابة) ساهما في انتشار الرداءة على أوسع نطاق الأمر الذي يدعو إلى ضرورة تحمل النقد والنقاد لمسؤوليتهم في المواكبة وإعمال الصرامة النقدية في مقاربة المنتوج الأدبي لنرتقي به إلى مستوى تطلعات القارئ بعيدا عن المجاملة ومظاهر النفاق الاجتماعي التي لا تليق بنخبة يفترض فيها الصدق والبعد عن مثل تلك المظاهر.
وقد تلت الندوة أمسية إبداعية بمشاركة ثلة من المبدعين المغاربة تناوبوا على منصة الإلقاء: خديجة موادي (قاصة/الدار البيضاء)، محمد عابد (شاعر/العرائش)، توفيق بوشري (قاص/سيدي سليمان)، التيجاني الدبدوبي (زجال/سلا)، هشام موكادور (شاعر/طنجة)، زكية الحداد (قاصة/طنجة)، إدريس التولي (شاعر/طنجة).
واختتم الشطر الأول من برنامج “رونق” الثقافي لسنة 2015، الذي شهد حضورا نوعيا من مبدعين ونقاد وإعلاميين وأساتذة وطلبة، بكلمة الأستاذ رشيد شباري تحدث فيها عن المشاريع الثقافية والإبداعية التي سينظمها “الراصد الوطني للنشر والقراءة” خلال الشطر الثاني محليا ووطنيا، مؤكدا على إصراره في الانغراس بالوسط الثقافي المغربي من خلال رصد حركة النشر والمساهمة فيه من جهة، والاحتفاء بالمبدعين المغاربة والتعريف بإنتاجاتهم خارج منطق الزبونية والحزبية والنجومية من جهة أخرى.