توطئة:
حين تَتَّقِد جذوةُ الشعور، وتنضج بواعث الأشجان، يتولد الإبداع وتنساب الكلمات دون نصب وكلل، وفي الآن نفسه، يتخلق شكل النص الذي يلائم هذه الحال ليأسر الباث المتلقي ويستحوذ على فؤاده ولبّه، ويحل فيه حلول الاتساق والتجاذب والتناغم. هذا الأمر ينطبق على القاصة المغربية فاطمة الزهراء المرابط التي دأبت على الإفصاح عن آمال وأمال الذات المتشظية والإنسان المقهور داخل المجتمع، وذلك من خلال تجربتها الإبداعية المتفردة.
ومن هذا المنطلق تروم هذه الورقة البحثية إلقاءِ الضوءِ الكاشف على مساربَ كافيةٍ من فكر القاصة، والاطلاع على رؤاها الفكرية وأغراضها وكشفِ مقاصدها وتحليل مقوماتِ نصوصها القصصية عبر التجوال في عالم المجموعة القصصية الموسومة بعنوان “أتراك تشرقين غدا…؟”(1) التي تجمع بين الذات والجماعة، بين المتخَيَّل والمعيش.
1- تباين التيمات في الحكي: دراسة موضوعاتية
إن دراسة الأثر الإبداعي بمختلف أنماطه تعد مغامرة، لأن ركوبه حافل بالخطوب والأهوال، لكن لذة المغامرة تزداد مع سبر أغوار الفن القصصي المغربي، وذلك عبر تحويله إلى مادة مهيأة للأسئلة الأكاديمية؛ أي الأسئلة النظرية والمعرفية، التي تنير إشكالات الممارسة النصية للقصة المغربية المعاصرة. وفي هذا السياق نفضل التوسل بآليات النقد الموضوعاتي الذي يهدف إلى تحديد رؤيا المبدعة فاطمة الزهراء المرابط للعالم، انطلاقا من ربط الإبداع الأدبي بالذات في تمظهراتها الواعية وغير الواعية، قصد تحديد أحوال الوعي ومضامينه، إضافة إلى اعتمادها على الحدس الصوفي والاستنباط الروحي، وكذا معرفة تصورها إلى الحياة والوجود الإنساني في شكل مقولات تيماتية محورية وموضوعات بارزة. لكونها تقوم على استخلاص الفكرة العامة، أو الرسالة المهيمنة، أو البنية الدَّالة التي تتمظهر في الأثر الأدبي عبر النسق البنيوي والبحث عما يجسد وحدة النص العضوية والموضوعاتية اتساقا وانسجاما.
1-1- دواعي اختيار النقد الموضوعاتي
من دواعي توسلنا بآليات وميكانيزمات النقد الموضوعاتي انفتاح المنجز السردي “أتراك تشرقين غدا…؟” على مضامين جديدة وخصبة، مما جعل التجربة الإبداعية بمثابة المرآة العاكسةِ لمواجيد القاصة فاطمة الزهراء المرابط وإشراقاتها وتعلّقها بالجمال في أروع ما تتصوره من كمال وخير وقدرة وعلم، ولا يمكن إدراك ذلك إلا من خلال توظيف مقومات القراءة الجادة التي تحفز على الفهم والتفسير والتأويل.
وعلى هذا الأساس سنحاول الانطلاق من قاعدة واضحة تسعفنا في الولوج إلى عالم الخطاب السردي بطريقة تجمع بين هدوء البحث الجدي واتزانه، وبين عنف التجربة القصصية ذاتها، حتى لا تجنح دراستنا إلى إفراز كلام انطباعي وفضفاض يظل المطلع عليه مجانبا لفهم كلام القاصة وبعيدا عن مراميه ومقاصده؛ خاصة أن المتن المدروس تغلب عليه المسحةُ الأخلاقية، مثل التطهير البدني والخلاص الروحي ومخاطبة الروح ومناجاة النفس ونشدان القيم النبيلة والمبادئ السامية واستشراف الغد المشرق الذي تسوده مكارم الأخلاق.
ويمثل غاستون باشلار الأب الروحي للنقد الموضوعاتي؛ إذ درس مجموعة من الصور الشعرية ذات البعد التِّيماتي بمقاربة فينومينولوجية، تربط الذات بالجماعة بحثا عن مظاهر الوعي واللاوعي وترسباته السيكولوجية في اللغة. وعن أهمية النقد الموضوعاتي يقول جيرار جنيت “Gerard Genette”: “لا شيء في الحقل الأدبي تعلَّمت منه أكثر ممَّا تعلمت من الدراسات التي أنجزها النقد الموضوعاتي، وانطلاقا منها رحت أبحث عن تطوير النقد، وهو تطوير قد يبدو الآن قد أدار ظهره لنقطة انطلاقه، لكن يبقى دائما أن النقد الموضوعاتي هو الذي علَّمنا كيف نقرأ، لأننا قبله كنَّا ربما ننجز أشياء مهمة، لكننا لم نكن نقرأ النصوص قراءة حقيقية”.(2) ومن أهم التيمات التي تزخر بها المجموعة القصصية “أتراك تشرقين غدا…؟ نلفي: تيمة التراث، تيمة الألم وتيمة الطبيعة، إلى غير ذلك من التيمات التي تبرز تميز المبدعة.
2- استلهام التراث الشعبي في الحكي
يعد التراث أحد أوجه الجمال الإبداعي لدى الأمم، ولذلك دأبت القاصة فاطمة الزهراء المرابط على استلهامه وتَمَثُّله في الصياغة والتعبير، وعملت على توظيف مرجعياته المعرفية بهدف خدمة التجربة الإبداعية والإفصاح عن الرؤى المتباينة للكون. والجدير بالذكر أن عملية توظيف التراث تشكل، في الفن القصصي، ملمحا رئيسا من ملامح التطور في العملية الإبداعية، ولأن التراث خصب بمعطياته وإمكاناته التي حملها لنا عبر العصور، فقد مثَّل مجالا رحبا للاستلهام أمام المبدعة التي وجدت فيه مقومات فكرية وإبداعية تمكنها من التعبير عن الهموم والقضايا التي تشغلها.
نجد القاصة في “أتراك تشرقين غدا…؟” تعمل على استدعاء التراث الشعبي في منجزها السردي، حيث يصعب الفصل بين سمات القاصة وسمات قصصها التي لا تكاد تغيب عنها الملامح التراثية وأجواء القرية وذكرياتها، مهما تمعن صاحبتها في معالجة موضوعات المدينة وتصوير مشاكلها وتعقيداتها.(3) ومرد ذلك، بالأساس، إلى أن التراث الشعبي وثيق الصلة بنبض الجمهور حراكا وسكونا، قوة وضعفا، رجاء ويأسا تهدف من خلاله المبدعة إلى تأطير الكائن البشري داخل النسق الجمعي. وهذا ما يتضح بجلاء في قصة “شجرة العرعار”: “وقد اقترب بعضنا من با المكي، يخترق سمعنا صوت قوي “يا الطامع في الزيادة رد بالك من النقصان” يردد العبارة وكأنها أغنية تشد الأسماع إليها. من يكون هذا الغريب الذي يتقدم نحونا، ملابسه غريبة، يضع في عنقه عقدا كبيرا من الخرز الأسود، عيناه واسعتان مدورتان بالكحل، أوشام مختلفة تتوزع على جبهته، وكأنه شيطان طرد للتو من الجنة، “ما يحس بالمزود غير اللي مضروب بيه!”، كان يردد بصوت حزين، صوته أحدث الرهبة في نفوسنا وقلوبنا الباردة”.(4)
يشكل التراث الشعبي رافداً حيوياً للفنون المختلفة؛ إذ يجد فيه المبدع ضالته فيوظفه في تجربته الإبداعية من أجل بلورة رؤيته الفلسفية بما يتوافق وروح العصر. وعلى هذا الأساس عملت القاصة على توظيف المثلين الشعبيين التاليين “الطامع في الزيادة رد بالك من النقصان” و”ما يحس بالمزود غير اللي مضروب بيه!”(5) في المقطع السردي السابق، ويقصد بالمثل الشعبي بـأنه القول المأثور الذي تظهر بلاغته في إيجاز لفظه وإصابة معناه، قِيْلَ في مناسبة معينة، وأُخِذَ لِيُقَالَ في مِثْلِ تلك المناسبة. ولهذا عمدت القاصة إلى استدعاء الأمثال الشعبية لكونها من أبرز عناصر التراث الشعبي، فهي مرآة لطبيعة الناس ومعتقداتهم، لكونها تتغلغل في معظم جوانب حياتهم اليومية، وتعكس المواقف المختلفة، بل تتجاوز ذلك أحياناً لتقدم لهم نموذجاً يُقتدى به في مواقف عديده، وبهذا المعنى تسهم الأمثال الشعبية إسهاما وافرا في تشكيل فلسفة المجتمع وقيمه، الأمر الذي جعلها محوراً أساساً لاهتمام الكثير من العلماء والباحثين المعنيين بدراسة الأدب الشعبي بمختلف أجناسه.
فضلا عن هذا كله نجد القاصة توظف الأسطورة التي تفصح عن الوجدان الجمعي المشترك وترتبط ارتباطا وثيقا بالمقدس حسب الباحث الأنثربولوجي “كلود لفي ستراوس”. ولعل أسطورة “عيشة قنديشة” تشكل نمطا من أنماط التراث الشعبي المغربي الذي حفل به الإبداع في الثقافة العالمة، ولا تشذ القاصة فاطمة الزهراء عن ذلك، إذ تقول في قصة “شجرة العرعار”: “«… وكثيرا ما عدنا من دون أصحابنا، وأحبابنا الذين ابتلعهم البحر.. البحر غدار» يتنهد بحرقة، يمسح عينيه بكم جلبابه الصوفي، وكأنه يحاول حبس دمعة تحاول الخروج إلى الوجود. يقاطعه العربي: «حْكي لنا أبا المكي على «عيشة قنديشة» لي خْرجتْ لكُم من البحر..».(6)
لقد وظفت القاصة التراث الشعبي –من خلال الأسطورة والمثل الشعبي- توظيفا عذبا ينم عن ذوق جميل وخبرة بالصناعة الأدبية، محيطة بما يطبع مجتمعها، مدركة لما يؤهلها لانتقاء المثل والقول الصائب، في إيجاز لفظه وسهولة معناه.
والجدير بالذكر أن عمليةَ توظيف التراث الشعبي، في الفن القصصي، تشكل ملمحا رئيسا من ملامح التطور في العملية الإبداعية، ولأن التراث خصبٌ بمعطياته وإمكاناته التي حملها لنا عبر العصور، فقد مثَّل مجالا رحبا للاستلهام أمام مبدع الفن القصصي الذي وجد فيه مقومات فكرية وإبداعية تمكنه من التعبير عن الهموم والقضايا التي تَشْغَلُه. ومن هذا المنطلق حاولت القاصة فاطمة الزهراء المرابط استدعاء التراث الشعبي والأسطوري في مجموعتها القصصية، لأن استدعاء التراث يعد أحد أوجه الجمال الإبداعي لدى الأمم.
3- ملامح اشتغال تيمة الألم في الواقع
يعد الألم مكونا رئيسا من مكونات الخطاب السردي، إذ يغدو كلّ تأمل في مظاهر الكون تعويضا لغياب مؤلم، أو إفصاحا عن معاناة ذات المبدعة التي ينضح عنوان منجزها السردي “أتراك تشرقين غدا…؟” بالألم . فهذا السؤال البلاغي الدال على التمني، يحيل على آلام القاصة وعلى قلقها الوجودي وينقل، في الآن ذاته، اضطراباتها ومعاناتها إلى القارئ التجريدي بتعبير إدريس بلمليح، لأن القارئ هو “الذي لا يعيد بناء الدَّلالة وإنما يجاوز فعل القراءة لبناء دلالات موازية للنص الأصلي، تتحقق بأشكال مختلفة، فتصبح إنتاجا آخر يكوِّن ما يمكن أن نسميه النص الموازي. لأن القارئ التجريدي يتحقق بشكل محسوس خارج النص حين يقبل دور المتلقي المستعد لأن يتواصل مع المبدع تواصلا تفاعليا يصل في حدوده القصوى إلى تحقيق إنتاج تاريخي ممتد عبر الزمن، يوازي حياة النص ويتجدد بتجدد تداوله”.(7)
تصبو القاصة فاطمة الزهراء المرابط من خلال السؤال “أتراك تشرقين غدا…؟” إلى نوع من التسامي فيما ترومه من أفكار، وفيما يختلج في نفسها من مشاعر وأحاسيس، متجاوزة بذلك قسوة الواقع وتناقضاته وآلامه المتمثلة في القبح والانهيار القيمي، مما حفزها على تمني إشراق نور الحقيقة المطلقة.
ويدل هذا التمني دلالة قوية على السعي الحثيث للقاصة إلى تصور واستشراف عالم أكثر كمالا من عالم الواقع الذي يبعث على الشعور بالشجن والألم الذي يصوره المقطع التالي: “مرارة الألم تمزق أحشاءك، تتمنين لو أن الأرض تنشق الآن وتبتلعك، تخفين خيبتك من نفسك، من أحلامك المتشظية، وقد رمت بك الأقدار إلى يدي رجل جاهل، يتفنن في اللعب على العقول الضعيفة والقلوب الهشة، هل كان عليك الجلوس أمامه، لتستمعي إلى تعاويذه ونصائحه البئيسة التي لم يعمل بها يوما؟ تتنهدين بحرقة كبيرة، وأنت تلومين نفسك على الانجراف وراء الوهم”.(8) ومبعث هذا الألم هو الإحساس بفظاعة الواقع وشدة وطأته على النفس، وصبوة الروح للتماس مع الحقيقة التي تعذِّب كيان المرء.
إن الحقيقة الثابتة التي لا محيد عنها هي أن قصص “أتراك تشرقين غدا..؟” تطرح مفهوما معينا للإبداع، استنادا إلى “رؤيا تثاقفية أسهمت فيها عدة عوامل، فرضتها ساحة الكتابة العالمية، لعل أبرزها التمرد على الواقعية النمطية ومحاولة الرجوع إلى عوالم الفن الذي يستجيب لبعد اللانهاية ليحقق فكرة الإبداع، الذي هو تعارض وانقطاع بين الواقع القائم وطموح الذات إلى واقع غير متحقق”.(9)
تبعا لهذا كله نجد الذات المبدعة تَفْحَصُ شكل التطابق بين صورة جميلة في الذاكرة، وصورة قاتمة يجسدها الواقع المعيش المبطّن بالوهم الذي يبيعه الدجالون والمشعوذون للنفوس الضعيفة، حتى أن الذات تخشى على بريق الصورة المُشَكَّلَة في الذاكرة، الأمر الذي جعلها تكابد لواعج الألم التي يجسدها المقطع الآتي من قصة “ماسح الأحذية”: “الشقاء اليومي يفرض نفسه بلا رحمة، والواقع يختم على كل شيء بجبروته”.(10)
وهذا الشقاء الناجم عن خيبة الواقع، يعزِّز الإحساس بالألم في ثنايا المتن السردي حتى يصح أن نقول مع فريديريك نيتشه: “إن الألم قوام الحياة، ولا يعرف الحياة من لا يعرف الألم. ولا غرو في ذلك مادام الجماد لا يشعر ألما في تفاعله، كما أن الحيوان ينسى الألم بزواله، فإن إرادة الحياة في هؤلاء خطبها يسير، أما الإنسان فخطبه كبير، لأنه إرادة شاعرة بنفسها، ومن ثمة كان كل ما يقف في طريق هذه الإرادة ويعرقلها يحدث ألما، ويترك في نفوسنا مضضا”.(11) تقول الساردة في هذا المعنى: “لباسها الأسود، الوشاح الشفاف فوق خصلات شعرها، يوحي بالحزن والألم الذي يسكن دواخلها…”.(12)
يجسد الحزن/ الألم في الفن القصصي إغراء خفيا يمارسه استشراف القاصة لغد مشرق ورؤيا جديدة للكون، وهذا ملمح إبداعي أنتج منجزا سرديا بمواصفات جمالية متميزة. ويزداد الألم حدة عندما يشعر المرء بالوحدة والغربة، وهذا ما حصل للساردة المتيمة عندما تركها حبيبها عمر، فقالت: “آه، يا عمر، لمن تركتني…؟”(13) يدل هذا التساؤل على تفاعلات نفسية واجتماعية وثقافية تجمعها سمة واحدة هي الإحساس بالغربة في الحياة، التي تبعث على الإحساس بالقلق، وتمثُّل هذا الإحساس حفز الساردة على البكاء في الصورة التالية: “أطلقت صرخة مكتومة وانخرطت في نوبة بكاء ونحيب، لا أحد يسمع أنينها غير الجدران البيضاء”.(14)
ويعتبر البكاء في الخطاب الأدبي “من بقية الوجود، وللباكين عند السماع مواجيد مختلفة، فمنهم من يبكي خوفا، ومنهم من يبكي شوقا، ومنهم من يبكي فرحا، وبكاء الوجدان أعز رتبة وحدوث ذلك في بعض مواطن حق اليقين، ومن حق اليقين في الدنيا إلمامات يسيرة، فيوجد البكاء من بعض مواطنه لوجود تغاير وتباين بين المحدث والقديم، فيكون البكاء رشحا هو من وصف الحدثان لوهج سطوة الرحمان”.(15) ولهذا أعربت القاصة عن شدة الوجد والتتيم بالبكاء.
وتجدر الإشارة إلى أن نصوص –المتن المدروس- تشي بالتمرد على الامتثال والاستسلام للشقاء والألم رغبة في تحقيق الدّعة والسكينة وترسيخ السلام والهدوء السّرمدي: “الشقاء يلتصق بها أينما حلت ورحلت، هل كان عليها أن تعتنق الحروف دينا، وأن تتنفس العناد هواء؟ كيف قادتها الأقدار إلى الباب المغلق؟ لم عليها أن تكون مطيعة مستسلمة، حتى يقبل بها الآخر؟ السؤال وحده يؤرقها ويوقظها من أشد أحلامها حلاوة، لكن لا حزن، لا شقاء بعد اليوم، لا شيء سوى السلام والهدوء الأبدي…”(16) ومن هنا تنهض لغة الحلم في العمل الإبداعي.
إن لغة الألم التي تبوح بها موضوعات المجموعة القصصية هي التي منحتنا مسوغ الاستناد إلى النقد الموضوعاتي الذي يستلزم –حسب سعيد علوش- قراءة نص واحد أو مجموعة من النصوص والأعمال الإبداعية التي كتبها الأديب المبدع، والبحث عن بنياتها الداخلية، واستكناه مرتكزها البنيوي المهيمن، وجمع كل الاستنتاجات في بوتقة تركيبية متجانسة ومتضامة، واستقراء اللاشعور النصي عند المبدع، وربط صورة اللاوعي بصورة المبدع على المستوى البيوغرافي والشخصي.(17) إن خصوبة هذه المقاربة أسعفتنا في تتبع التيمات التي طرقتها القاصة، من أجل تحليلها تحليلا لا يغفل ما تثيره لدينا من نصوص أخرى تتناص مع مقامات تجربة فاطمة الزهراء المرابط.
4- شعرية المكان
تتعالق دراسة المكان بالشخصية في الإبداع القصصي على المستوى العاطفي؛ لأن المكان في العمل الإبداعي ليس حيزا جغرافيا فقط، بل هو عنصر فعَّال في الحياة البشرية ككل، الأمر الذي يكشف عن حقيقة النص وما يتركه من أثر في نفسية القارئ. ويقصد بالمكان ذلك الحيز والفضاء الذي تتحرك ضمنه الشخصيات، وفي هذا الصدد يقول عبد المالك مرتاض: “لقد خضنا في أمر هذا المفهوم، وأطلقنا عليه مصطلح الحيز مقابلا للمصطلحين الفرنسي والإنجليزي space , espace (…) ولعل ما يمكن إعادة ذكره هنا هو أن مصطلح الفضاء من الضرورة أن يكون معناه جاريا في الخواء والفراغ، وبينما الحيز لدينا ينصرف استعماله إلى الوزن والثقل والحجم والشكل (…) وعلى حين أن المكان نريد أن ننقله في العمل الإبداعي إلى مفهوم الحيز الجغرافي وحده”.(18)
يتغلغل المكان في أعماق الإنسان ويظل موشوما في ذاكرته وراسخا في مشاعره، ولهذا ترتبط القاصة فاطمة الزهراء المرابط ارتباطا وثيقا بالمكان، مما يضفي على تجربتها الإبداعية “أتراك تشرقين غدا..؟” ديناميكية التفاعل، وتخلع عليها صورا جمالية، تقول الساردة في هذا المعنى: “ساعات طويلة بين الأرقام الثقيلة والعبارة العجيبة، قبل أن أجدني في الشارع، أعانق وحشة الشمس المغتربة عن المدينة الباردة”.(19)
يتضح أن المبدعة تفصِح بجلاء عن قبح الواقع ودمامته بالمدينة الباردة، مبرزة ما تكابده من لواعج الألم والغربة والوحدة، ولهذا نجدها ترغب في معانقة نور الشمس الذي يوحي بالسمو والطهارة والصفاء، بعيدا عن عالم المدينة الذي يرمز إلى الانهيار القيمي الذي يجسده الخفافيش. وفي هذا السياق تقول الساردة: “أقصد ساحة المدينة، هدوؤها القاتل ينعشني، هنا فقط أستعيد كياني المتلاشي، ترى أين ذهب هؤلاء القوم..؟ لا مجيب سوى صوت خطواتي البطيئة”.(20)
تحاول القاصة بوساطة منجزها السردي التعبير عن المجتمع بمختلف مكوناته وتباين مواصفاته، فتسلط الضوء على العوامل السوسيو ثقافية المؤثرة في حياة الإنسان وعواطفه وأفكاره. ولهذا نجدها تحرص على تقديم شخصياتها وهي تتحرك في وسط اجتماعي معين، حيث يسهم المكان في نمو الحدث، سواء أكان واقعا أو رمزا، ومن ثمة يعد المكون المكاني عنصرا فعالا في البناء الفني للقصة، ولاسيما المكان المفتوح على شوارع المدينة. تقول الساردة: “أجوب شوارع المدينة، أبحث عن الحروف القادمة من السماء، شرود كبير ينتشلني من واقعي، يرحل بي إلى عالم خيالي، أتخيل حرف الألف وهو يهوي على رأسي بقوة، يرسم بقعة دموية على شعري المتلاشي”.(21)
يرى غاستون باشلار أن البيت “جسد وروح، وهو عالم الإنسان الأول قبل أن يقذف بالإنسان إلى العالم، وأي ميتافيزيقا دقيقة لا تستطيع إهمال هذه الحقيقة البسيطة لأنها قيمة مهمّة، نعود إليها في أحلام يقظتنا. فالوجود أصبح الآن قيمة والحياة تبدأ بداية جديدة محمية دافئة في صدر البيت”،(22) بيد أن الحلم العجيب قد يغدو نهاية مؤلمة تعرب عنها الصورة الآتية: “انقطع الضوء وختم الظلام بسواده على أرجاء البيت، ثم عاد الضوء خافتا، قبل أن ينتشر قويا خلف الستارة، الجموع من جديد فوق الخشبة، يترنمون بأغنية حزينة عن الموت”.(23)
يشير غاستون باشلار إلى أن المكان الأليف هو الذي مارسنا فيه أحلام اليقظة، وتشكل فيه خيالنا، فالمكان في الأدب هو الصورة الفنية التي تذكرنا أو تبعث فينا ذكريات بيت الطفولة.(24) ولعل الذكريات التي جسدها المكان الأليف/ البيت هي التي حفزت القاصة على استشراف رؤيا جديدة للكون، وهذا المنظور الوجودي القائم على مجازفةٍ وجودية هو ما يشكل سمات الذات التي تُنْتِجُ إبداعا بمواصفات جمالية متميزة، لأن البحث عن الحقيقة هو ما يميز هذا المنجز السردي المتميز. وتبعا لذلك، نستطيع القول إن القاصة فاطمة الزهراء المرابط حاولت أن تجسد المكان المغلق في مجموعتها القصصية بأشكال متباينة، وتبدو الأماكن المغلقة -غالبا- باعثة لذكريات شخصياته القصصية التي تظهر لديهم كلما التصق بها، لذلك فإن هندسة المكان تسهم أحيانا في تقريب العلاقات بين الأبطال أو خلق التباعد بينهم”.(25)
لعلَّنا لا نبالغ إذا ما ذهبنا إلى أن جمالية المكان أو سموه، لا تقل أهمية عن الجمال والإشراق في التجربة الإبداعية. وفي هذا الصدد يذهب غاستون باشلار إلى أن الفاعلية التي تتسم بها جمالية المكان والتي تتوجه من الألفة العميقة إلى المدى اللانهائي، تشعرنا بالفخامة تنبعث من داخلنا، وهذا ما نلمسه في الصورة الآتية: “من تكون هذه المرأة التي أثارت انتباه عشاق السحر والجمال..؟ أتراها امرأة من لحم ودم كما حكى التاريخ؟ أم أنها امرأة من خيال، سكنت دواخل هذا الفنان المهووس بالفرشاة والألوان فسحر العالم بغموضها.؟ سحرني أنا أيضا، وأجبرني على قطع مسافة طويلة لأكون بحضرتها”.(26) وهذا يعني أن الإحساس بالفخامة والسمو يرتبط، على مستوى الأمكنة، بالاتساع والعلو. فالأمكنة النموذجية للتجربة الإبداعية هي التي تتصف بالسمو.
نستخلص أن براعة القاصة وقدرتها الفنية تكمن في إقناع المتلقي باحتمال وقوع الأحداث وتسلسلها في أمكنة متعددة بصورة عفوية وتلقائية، مما يدل على أن المكان، في حركة الإبداع، لم يعد يحمل معنى الحيز والحجم والخلاء.
5- سمو الطبيعة
يتميز الإبداع القصصي “أتراك تشرقين غدا…؟” بتعدد وتنوع التيمات التي خاضت فيها القاصة فاطمة الزهراء المرابط، من أهمها “تيمة الطبيعة”، حيث عملت القاصة على وصف الطبيعة بمظاهرها وظواهرها، بتجلياتها وإيحاءاتها؛ إذ تحدثها وتحادثها، في المكان وفي الزمن وبالإيحاء.
يشغل عنصر الطبيعة حيزا كبيرا في الخيال الإبداعي للقاصة، بيد أننا نلمس حضورا مكثفا للبحر في قصة “الرقصة الأخيرة”، إذ ترى الباحثة “ماري بونابارت” في دراستها لـ”إدكاربو” حسب ما يورد غاستون باشلار، “بأن هناك أغنية عميقة تشد الإنسان إلى البحر”.(27) وفي هذا السياق تقول الساردة: “الأمواج وحدها تبعث فيك الروح، تحسسك بالولادة الجديدة، اللون الأحمر المتسرب من فستانك الصيفي يلون الماء، يلون قلبك وذاكرتك الثائرة بألوان الحب والتمرد”.(28) غير أن الانجذاب نحو أمواج البحر ليس هو الوحيد الذي يوقظ لدى القاصة الحنين إلى الإشراق “أتراك تشرقين غدا..؟”، بل إن تعالي الطبيعة وسموها أيضا يقوي ذلك الحنين ويجذره، ومن هنا يظهر التلازم القوي بين الحنين إلى الإشراق، وبين الحنين إلى الاتصال بالطبيعة.
إن كل مشاهد الطبيعة بقدر ما تثير مشاعر الافتتان في نفسية القاصة وتجذبها نحوها، بقدر ما توقظ فيها، أيضا، مشاعر الحزن والاكتئاب، وهذا ما يفسر ازدواجية المشاعر النفسية من جهة، وازدواجية خصائص المشاهد الطبيعية من جهة أخرى، فهي تارة تبدو جميلة وحسناء ومنيرة بالجمال والصفاء، وأحيانا أخرى تبدو محطمة ومهدمة. وهذا كله يجسده المقطع السردي الآتي: “البحر يبدو أمامك متلألأ تحت أشعة الشمس، يغريك بالارتماء بين أحضانه، لعله يبتلعك ويخلصك من مجتمع بائس لا روح فيه، تتأملين حركة الأوراق المتناثرة على سطحه، قبل أن تلقي بنفسك في تجاويفه العميقة”.(29)
نستخلص أن الصور المستلهمة من الطبيعة وجدت مكانتها الخاصة والمتميزة ضمن الإبداع الأدبي المغربي، وخصوصا في الفن القصصي، إذ جنحت إليها القاصة فاطمة الزهراء المرابط لتنهل من مظاهرها الحيّة والجامدة، المتحركة والسّاكنة، التي هزّت نفسها وحرّكت مشاعرها. فانبرت تعبر عنها بلغة فيها من الإحساس والخيال والعاطفة ما يلائم الذوق التعبيري الرفيع، ويتماشى مع التركيب النفسي والشعري والوجداني لدى القاصة تعبيرا منها عن فلسفتها للكون.
1-5- رمزية النور
اهتمت القاصة فاطمة الزهراء المرابط بجانب الجمال فجسدته وعبّرت عنه في قالب رمزي يوحي بالسمو والقداسة، ولعل هذا ما يتجلى بوضوح بوساطة العديد من الرموز أهمها النّور الذي يمثل شحنةً رمزيةً تشير إلى الصفاء والضّياء الذي تنشده القاصة في مجتمع عمَّته ظلمة حالكة، طالت كل الميادين الثقافية والسياسية والاجتماعية. وفي هذا السياق نجد السارد يقول في قصة “شجرة العرعار” “تنهدتُ بصوت مسموع، وتابعتُ السير مهتديا بضوء البرق الذي كان يبدد سواد الليل، مهرول الخطوات حتى لا يفاجئني المطر، دقات قلبي تزداد قوة كلما اقتربت من الشجرة”.(30)
إن رمزية النور/ البرق تعزز جانبَ الهداية بالنسبة للسارد التائه، ويمثل النور في التراث الأدبي “رمزا لتوالي الإشراقات الربانية وتعاقب الأنوار الرحمانية، والليل رمز للحجب والآثار الظلمانية التي تحجب القلب وتمنعه من مشاهدة الأنوار العلوية”.(31) وإذا كان القمر من أهم المشيرات اللغوية الدالة على الضياء والنور، فإن القاصة وظفته توظيفا محكما في الصورة التالية: “القمر كان مضيئا، يبتسم لي، يلوح لي بأنامله البيضاء، يدعوني إليه، وأنا هنا أشرب الكأس السابعة والثامنة، صوتي يزداد صخبا وغناء…”.(33)
يمثل القمر، هنا، وسيلة تعبيرية رمزية لإقامة علاقة بين معنى مجرد وصورة حسية، فتشكل هذه العلاقة، بطريقة كلية أو جزئية، المعنى المراد تجسيده،(34) وهذا يعني أن الرمز الذي توسلت به القاصة يكشف عن تلك النواحي والجوانب النفسية المستترة، التي لا تستطيع اللغة العادية التعبير عنها. ومن ثم نجد القاصة تلح على شحنِ بعض الألفاظ والعبارات بدلالات رمزيةٍ تدعمها رؤيتها للعالم.
على سبيل الختم
استنادا إلى تجوالنا عبر عوالم المجموعة القصصية “أتراك تشرقين غدا..؟” نستخلص جملة من الخلاصات الجوهرية، أهمها أن المتن المدروس يزخر بصور اللغة الرمزية التي عرفت طريقها إلى عالم القاصة، وانسجمت مع منظورها الذي يميل إلى الرمز والانتقال بالمتلقي إلى عوالم فسيحة الأرجاء. وهذا ما جعل خطابها يردم الهوة التي تفصل بين التجربةِ المعيشة وبين السرد، بين السلوكِ وبين الإبداع، بين الذات وبين الجماعة. فضلا عن ذلك نلفي أن هذه التجربة الإبداعية تنطق بما تنطوي عليه سريرة القاصة المغربية فاطمة الزهراء المرابط، إذ تحبل المجموعة القصصية بتيمات متباينة عمقت الرؤية الفلسفية التي تزخر بها التجربة الإبداعية لدى القاصة. فلئن كانت الرؤية العقلانية هي التي تنشر ظلالها على مختلف الإبداعات المعالجة لقضايا الواقع، فإن اعتماد الحدسِ هو النبراس الموجّه للإبداع المشرق “أتراك تشرقين غدا..؟” الذي يفصح عن جمالية التجربة الإبداعية التي ميزت القاصة، إذ يعد خطابها السردي فنا تضمَّن عناصر الجمال الأدبي على مستوى الأسلوب البلاغي والمضمون المعنوي.
—–
هوامش
(1) فاطمة الزهراء المرابط، أتراك تشرقين غدا..؟، قصص، الراصد الوطني للنشر والقراءة، طنجة، 2019.
(2) Gerard Genette, Coll- Poétique, éd. Du Seuil, Paris, 1987,p210.
(3)ينظر محمد أنَقَّار، عن الدائرة في “دائرة الكسوف”، ضمن أعشاب المستنقع، أبحاث في التجربة القصصية لمصطفى يعلى، إعداد وتنسيق: أحمد حافظ، مطبعة الأمنية، الرباط، 2013، ص. 07.
(4) أتراك تشرقين غدا..؟، ص. 61.
(5) أتراك تشرقين غدا..؟، ص. 61.
(6) أتراك تشرقين غدا..؟، ص. 61.
(7) إدريس بلمليح، القراءة التفاعلية، دراسات لنصوص شعرية حديثة، دار توبقال، الدار البيضاء، ط.1، 2000، ص: 10.
(8) أتراك تشرقين غدا..؟، ص. 24.
(9) عبد الله بن عتو، “شرخ كالعنكبوت، قراءة في جمالية الحدث”، ضمن أعشاب المستنقع، أبحاث في التجربة القصصية لمصطفى يعلى، مرجع سابق، ص. 86.
(10) أتراك تشرقين غدا..؟، ص. 56.
(11) عبد الرحمن صدقي، “الألم قوام الحياة”، الهلال، ع.01، 1936، ص: 280. وللتوسع أكثر ينظر: إيهاب النجدي، “شعرية الفقد، قراءة في ديوان “رثاء القمر”، عالم الفكر، ع. 176، الكويت، 2018، ص: 128.
(12) أتراك تشرقين غدا..؟، ص. 105.
(13) أتراك تشرقين غدا..؟، ص. 43.
(14) أتراك تشرقين غدا..؟، ص. 43.
(15) عبد الرزاق الكاشاني، معجم اصطلاحات الصوفية، تحقيق. عبد العالي شاهين، دار المنار، القاهرة، ط.1، 1992، ص، 36.
(16) أتراك تشرقين غدا..؟، ص. 73.
(17) سعيد علوش، النقد الموضوعاتي، شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، ط.1، 1989، ص، 105.
(18) عبد المالك مرتاض، في نظرية الرواية : بحث في تقنيات السرد، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1998، ص. 121.
(19) أتراك تشرقين غدا..؟، ص. 14.
(20) أتراك تشرقين غدا..؟، ص. 31.
(21) أتراك تشرقين غدا..؟، ص. 7.
(22) غاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة: غالب هلسا، دار الجاحظ للنشر، بغداد، 1980، ص: 45.
(23) أتراك تشرقين غدا..؟، ص. ص. 99-100.
(24) غاستون باشلار، جماليات المكان، ت. غالب هلسا، المؤسسة الجامعية، بيروت، ط.5، 2000، ص. 06.
(25) مها حسن يوسف، المكان في الرواية الفلسطينية (1948- 1988)، إربد جامعة اليرموك، 1991، ص. 328.
(26) غاستون باشلار، جماليات المكان، مرجع سابق، ص، 184.
(27) أتراك تشرقين غدا..؟، ص. 105.
(28) Gaston Bachelard, l’Eau et les Rêves, José corti – 1942, Paris, p 156.
(29) أتراك تشرقين غدا..؟، ص. 25.
(30) أتراك تشرقين غدا..؟، ص. ص. 24-25.
(31) أتراك تشرقين غدا..؟، ص. 62.
(32) محيي الدين بن عربي، ديوان ترجمان الأشواق، تحقيق. عبد الرحمن المصطاوي، دار المعرفة، بيروت، ط.2، 2009.ص، 367.
(33) أتراك تشرقين غدا..؟، ص. 16.
(34) عبد الله طواهرية، الياقوتة، مطبعة أطلال، وجدة، المغرب، 1992، ص، 17.
عز الدين المعتصم – باحث من سيدي سليمان