يوسف أمفزاع – باحث من الرشيدية
توطئة
تكشف الكتابة الدرامية في المسرح المغربي المعاصر عن تغيرات في الاختيارات الموضوعاتية، وإبدالات ترتبط بالاهتمامات العرَضِيَة لكل فاعل مسرحي حيال ما يمتهنه، فطبيعة المسرح الشمولية، لا تقف عند انفتاحه على عوالم إبداعية، وجمالية، وفلسفية، واجتماعية… مجاورة، ولكنها تتجاوز ذلك نحو وظيفة المسرح البيداغوجية التي تجعله دون غيره قادرا على تحفيز أي منظومةِ تربيةٍ.
وعلى هذا الأساس، نقدم للقارئ النص المسرحي “بن سينا في المدينة الإلكترونية”، للكاتب المغربي سعيد موزون الذي اتجه نحو الكتابة المسرحية البيداغوجية في باعتبارها اختيارا دراميا، انطلاقا من هذا النص الموجه للفتيان، مما ينبئ بأنه يشكل عالما ممكنا بوعي درامي، وإبستيمولوجي، وبيداغوجي متوازن.
تتجلى عبقرية الكتابة الدرامية في المسرح المغربي، استنادا إلى مواكبتها لقضايا العصر دون إعادتها نفسَ نسق إنتاج النصوص، ولكن بإعمال التجريب، والجمع بين الحُسْنيَيْنِ، بمعنى أن الكتابة، بيداغوجية المقصدِ، فالقضية التي تناقشها، والمتمثلة في خطر الذكاء الاصطناعي على الناشئة، تعد إشكالية مركزية في الفكر المعاصر، حيث إنها قضية تؤرق ذهن كبار الفلاسفة، والسيكولوجيين، والسوسيولوجيين، والمفكرين، والمسرحيين… من قبيل مارتن هايدغر Martin Heidegger، وألبير إينشتاين Albert Einstein، وإدغار موران Edgar Morin، ونعوم تشومسكي Noam Chomsky، وجاك لوكوك Jacques Lecoq، وإيلزا غودار Elsa Godart… ولذلك، تصدى هذا النص لإشكالية ميتافيزيقا التقنية، والذكاء الاصطناعي، ونهاية العالم الحتمية التي تفرض على الإنسان، تغيير طريقته في التعامل مع الآلة التي أضحت تهدد وجوده، وأثرت بصفة مباشرة على التربية، والتعليم، والحياة بعامة، ووضعت الكتابَ على هامش المنظومة التربوية.
تجدر الإشارة، إلى كون هذه القراءة ستلتزم بلغة محاذية لطبيعة النص البيداغوجية. ولذلك، فإننا سنطرح على هذا الضرب من الكتابة الدرامية، أسئلة إشكالية وتوجيهية، فكيف للمسرح أن يعالج أزمات سيكولوجية، ومشكلات وجودية ببساطة، بلفظ تداولي يسري في الحوار بشكل سلس دون تركيب معقد يسعى إلى البديع الكلامي، مع تناسٍ لفعل الكلام نفسه؟ وما طبيعة التوظيف التراثي للشخصية التاريخية في نص درامي بيداغوجي؟ ثم هل يمكن لمسرح الطفل أن يصير تجريبيا، أم أنه مجرد حلم بعيد المنال؟ وإذا صحت فرضية التجريب في مسرح موجه للطفل، فإلى أي مدى سيساهم هذا النص في الترسيخ لنوع من الكتابة المسرحية، تُعْمِلُ التجريب في الشروط الجمالية، وتَطمحُ إلى تحقيق غايات تربوية بعيدة، وواسعة النطاق؟
1- الاستدعاء التاريخي وبناء المتخيل المسرحي
من الجلي أن الشخوص المسرحية استندت إلى التقسيم التقليدي الذي يفصل بين الرئيسي والثانوي، غير أن هذا الفصل إجرائي فقط، نظرا للتوجه التربوي للنص الذي يسعى إليه المؤلف. فبالنسبة لشخصية “ابن سينا”، فقد قامت على تقنية الاستدعاء التاريخي الذي يتماشى مع طبيعة الإشكال المركزي، المتمثل في الإلكترونيات التي تجسد مرضا يستشري في الثقافة. ومن الملاحظ، رَبطُ المؤلف بين ما تعانيه الثقافة العربية من عِلَلٍ، تُعزى إلى إهمال الذات، والتشبث المرضي بالحداثة، وهو ما مَكّنهُ من استدعاء “كتاب الشفاء ضمن إرشاد مسرحي استهلالي طويل، جاء في جزء منه:
“…وهم منغمسون في تصفح هواتفهم النقالة.. ثم إظلام تام، ثم إضاءة زرقاء مصحوبة بدخان صناعي ينفث من مدخل18 الباب المرسوم في اللوحة القماشية مـن خلفية الخشبة، الذي سـيدخل منه ابن سينا مندهشا، وهو في هيئة رجل من القرن الرابع الهجري، يحمل حقيبةً، وكتابا يتصفحه بعنوان “الشفاء”… ثم يتجه صوب الممثلين على الخشبة، وبمجرد أن تطأ قدمه الخشبة تسلط إضاءة شاملة، فيتوقف الممثلون كالتماثيل فيندهش لذلك…”[1]
يَشي هذا الإرشاد المسرحي بإشارات للاهتمام بالتفاصيل التاريخية، والمعرفية، ضمن نسق جمالي نعتبره في هذا السياق دليلا سميائيا، وعاملا مساهما في خلق حالة الدهشة في الفضاء الدرامي للنص، ويأتي وروده في الإرشادات تأكيدا على أهمية الحركة، تربويا لإثارة ذهن القارئ/المتعلم/المتفرج*[2] لهذه الجزئية التي تَنِمّ عن قيم تراثية.
تَنزَعُ الشخصية المسرحية في نص “ابن سينا في المدينة الإلكترونية”، نحو تشييد ما يمكن أن نسميه سلم التراتب التاريخي. حيث يمنح التخييل المسرحي في اللغة، بعدا يجمع بين تكسير حاجز الزمن، وبَعثِ التاريخ في شكل أسطورة معاصرة، يساهم هامش التخييل في استدعائها بوصفها رمزا مغتربا، يساند القارئ غير المتخصص في الأخذ بتلابيب معطيات معرفية، ومواقف سياسية ضمنية، ومُثلٍ وقيم مدرجة…
ولأجل ذلك، جعل المؤلف من النص وعاء لثقافة مُقاومةٍ لما هو سائد في الحياة العامة، من إقبال استعبادي على الذكاء الاصطناعي الذي لا يولد إلا وهما بامتلاك المعلومة، وإمكانيات التعرف على الغير، بينما يصل لوهم معرفته فحسب. ومن ثم، أدرجت في النص استعارة مسرحية لشخصيات آدمية، ألبستْ “بالكتاب” الصامت منذ أن أصابته لعنة التكنولوجيا، فتم منحه سلطة الكلام داخل النص، وهذا ما يظهر في هذا الحوار الاستهلالي بين شخصية الكتاب المغترب في عالم التكنولوجيا، وابن سينا الذي وجد نفسه بين زمنين:
“الكتاب: (مندهشا) أَعرفُك. أَنْت الطَّبِيب الملَّقب بـ“الشيخ الرئيس”!
ابن سينا: (يتصافحان ويتعانقان): َمْرحباً بِك أَخي.
الكتاب: ُ أعلم أن لك كتاباً بعنوان “الشفاء” وآخر عنوانه “النَّجاة”..
ابن سينا: الشفاء هوا ذا في يدي (يرفعه)، أما النجاة ْ فقد وضْعتُهُ في المكتبة للحاجة.”[3]
تمارس الشخوص نوعا من الغواية النموذجية على المتلقي الذي يسمع بقدر “ابن سينا”، ووضعه الاعتباري التاريخي، والثقافي، والفلسفي، والعلمي… وبذلك تغادر الشخصية خصائصَها الورقية، وتمارس على المتلقي سلطة الانفلات من الكلام فتوقد ملامح اللعب، وتدفع الجسد الخارجي إلى إعْمال النظر في مقترحات الجسد الداخلي للنص، بما هو بنية كلية، وليس مجرد قطع غيار، تنطلق من النص لتكتمل في العرض فُرجة.
2- النص المرح واستراتيجية بناء النص الموازي
تُفرزُ الكتابة الدرامية عند سعيد موزون، إحساسا بالانتماء إلى الشخوص المسرحية، وهو مفعول بيداغوجي بالأساس، لكون النص موجه للفتيان قصد حفزهم على تمثل المتخيل المسرحي والاندماج مع الشخصية، لأن درجات التخييل تختلف بين الفئات العمرية، وهو ما يبرز اهتماما متجددا للكتابة المسرحية المغربية بهذه الشريحة. ويثير النص الموازي المُتاخمِ للحوار، توجيها متعلقا بالفضاء المسرحي الذي يتضح أنه متسم بالتعليق، والإضافة، وتوفير الجاهزية السينوغرافية اللازمة لتحقيق اطمئنان إلى سريان التمسرح المزدوج، بمعنى أن:
- القارئ البسيط أو المبتدئ يستطيع إنجاز صورة تقريبية محتملة للنص، بل إن حماس الشاب يحمله على التشخيص، وفي مستوى آخر قد يقوم بتشكيل فريق لذلك، لكونه يجد في النص تجربة مماثلة لما يعيشه.
- القارئ المتمرس سيعمد إلى محاورة قضايا النص، ويفتحها على محاولة إنتاج جديد له في أفق إحراقه، وانبعاثه على الخشبة بوجه مغاير يضمن للنص سيمولاكرات Simulacres لا تبطل المثال ولكنها تحفزه.
وفي إطار التنزيل البيداغوجي لهذه المعطيات داخل الفصل الدراسي، فإن جل التلاميذ كما هو معلوم يسارعون إلى ممارسة المسرح، ومساحات النص الفارغة تسمح بإدخال أكثر من تسعة ممثلين، أضف إلى ذلك، تدريب المتعلمين على روح الجماعة من خلال تشكيل شبه فرقة مسرحية، يتعرف المتعلمون عبرها على التخصصات المشكلة للمسرح، وإن بشكل جزئي، سيتكلل بالنجاح بعدئذ. ومن الثابت أنها فرصة، لاكتشاف قدراتهم الصوتية، والتشكيلية، والتشخيصية، والأدائية، والثقافية… وترجع كل هذه التطلعات، إلى كون النصوص الموازية تحتوي على بياضات، تمكن المدرس/ المخرج على تفييئ المتعلمين إلى صنفين أو أكثر، لكن القاعدة البيداغوجية تحافظ على وحدتها.
1-2 بياضات النص الموازي
ومما يظهر فاعلية هذه الاستراتيجية الثنائية هو التنسيب، والبياضات التي يتركها المؤلف في النص الموازي عبر اقتراحه للوحة تناسب المشهد، وهو ما يثبت أن ممكنات الفرجة مفتوحة على اختيارات المخرج/ المدرس الذي يستلزمه النص لكي يملأ ما يتبقى من مساحات الاشتغال، ويقوم بإدارة “القراءة الإيطالية للنص” التي تسعفه على جمع المعطيات من المتعلمين عبر العصف الذهني، أو تقنية من هذا القبيل، تتم اختيارها باقتراح من المدرس/ المخرج، وتوظيفها سينوغرافيا، وجسديا. الأمر الذي يظهر أن النص المسرحي معين ديداكتيكي، وغاية معرفية في الآن نفسه:
“تدخل الشخصيات الإلكترونية إلى الخشبة، وهي ترتدي اللباس المناسب للفايسبوك، والتلفاز، والواتساب، والتويتر، واللوحة الإلكترونية، والكتاب… فيقدمون لوحة تعبرية صامتة يسخرون من خلالها مـن الكتاب ويعبثون به، ويتحركون على الخشبة وفق بانتومايم، أو كوريغرافيا/ أو لوحة مسرحية تناسب المشهد.”[4]
يبرز هذا النص مساحات فارغة، تهم جوانب متدخلة في سيرورة الإنتاج، ومنها اللباس، والكوريغرافيا، واللوحات التعبيرية، والموسيقى المناسبة، والأغاني… وهي ما يعين المتعلم على إخراج قدراته الخفية على أرضية المسرح، وقد تمثل هذه المبادرة تشخيصا لقدرات ومهارات المتعلمين، وتغذية راجعة يقيس عبرها المدرس مجهوداته المبذولة. ولكن، ما هي العناصر الجمالية الوظيفية الداخلية التي تساعد القارئ/ المتعلم/ المتفرج على تمثل وأداء هذا النص المسرحي؟
2-2 وظيفة النص المرح
لا ينتمي هذا النص المسرحي لنوع معين من المسارح المعروفة في الساحة العربية، ولا يصرح المؤلف بذلك، وربما يرجع هذا إلى إبدال جمالي يريد عبره إكساب قارئ النص روح المرح، والرغبة في السمو بالنص المسرحي إلى اللعب، لكون النص مجرد مقترح بدايةٍ، فالمسرح بطبيعة الحال، ينبني على طبقتين متماسكتين: النص والعرض، ولا تنتهي السيرورة المؤدية إلى إنتاج الدلالة دون الوصول إلى عتبة العرض.
يساهم هذا النص في إثارة الملكات الإبداعية للطفل، لأن النشاط الرمزي فيه، يصنع مجالا هيكليا غريبا، ومختلفا عن الواقع، من خلال انقسام مزدوج للموضوع، إذ تشير معطيات النص إلى لعبة تاريخ مزدوج يضم محتويات مختلفة، يؤدي تكرارها إلى خلق إيهام بإمكانية النص المسرحي على إحداث تسلسلات ثنائية، تفعّل التعلم المرح عبر الإيهام الذي سيصير أكثر فاعلية.
إذا كان الأدب، يتميز بوظيفة المرح التي لم يتحدث عنها رومان ياكوبسونRoman Jakobson، حيث إن اللغة نفسها، عبارة عن لعبٍ بالمعاني، ويَرجع ذلك إلى البنية الجمالية التي يتسم بها النص الأدبي.”[5] فإن النص المسرحي بعامة، لكونه مُلْتَقَى طرق الفنون قاطبة، وليس مجرد كتابة أدبية بحصر المعنى، يتضمن نوعا من الشخوص الدرامية المرحة*[6] Ludique كما جاء في كتاب “الشخصيات المسرحية” لجورج زاراغوزاGorges Zaragoza. وهكذا، فإن نص “ابن سينا في المدينة الإلكترونية” يزود الشخصية بنظام خطابي مليء بالحركات، والإيماءات، وإيقاع شبيه بالإيقاعات الصوفية التي تعتمد على الدائرة، بوصفها الشكل الكامل، والمقدس في الطقوس القديمة للمسرح اليوناني، وصراعا لكائنات فرجوية بأقنعة درامية معاصرة:
“الفايسبوك: (يتقدم نحو ابن سينا فيجره من خارج الخشبة ليصعدا معا إلى الخشبة، ثم يربطه بحبل )سأمسك َ بك َ ليس مـن خاصرتِك ْ بل ِمن َشعِرك، لِتدفع َثَمن إزعاجك لنا!..
الكتاب: (مستنكرا ومحاولا تخليص ابن سينا) دعوا الرجل وشأنه، لماذا ُتمْسـكه هكذا؟!”[7]
يبرز النص منطق صراع أفقي بين الشخوص (التلاميذ، والكتاب، وابن سينا، والتلفاز، والفايسبوك…) التي تعلن عن وجودها، انطلاقا من علاقاتها ببعضها، وبنبرتها الخطابية في الحوار، وارتباطها بالفضاء الدرامي، إذ إن “الفضاء المرح يفرض اختلافا في نمط الأداء الدرامي لدى كل شخصية، فمن الضروري أن تكون إحداها ستاتيكية، بينما باقي الشخوص حركية، أو بمعنى أدق دينامية، وهذا التفاعل الجدلي بينها هو ما يغذي حبكة المسرحية.”[8]
وكما فسرنا سابقا، فهناك مقترحات متعددة أمام التحاق هذه المسرحية بعوالم الفرجة، ومنها إمكانية تنزيل هذا النص إخراجيا داخل الفصل الدراسي، ولكن شريطة الاستناد إلى ممارسة ديداكتيكية تجريبية تترك للمتعلم مساحات كبرى للإبداع، ولو وصل المتعلمون إلى تغيير بعض صفات الشخصيات الثانوية، أثناء الإخراج المسرحي. ولا بد من التأكيد، على كون طرائق التدريس المعاصر، تسمح بذلك، وتشجع عليه، فلم يعد الديداكتيك مثلا، يشكل “حقلا معرفيا قائما بذاته، أو فرعا لحقل معرفي ما، كما لا تشكل أيضا مجموعة من الحقول المعرفية، إنها نهج، أو بمعنى أدق، أسلوب معين لتحليل الظواهر التعليمية،”[9] وفن لحل المشكلات الطارئة على الإخراج نفسه، بوصفه وضعية تعلم.
3- لغة الحوار بين التجريبي والبيداغوجي
ورغبة في إبراز جوانب إنتاجية تسهم في النقل الجمالي، فإننا نلحظ اختيار المؤلف استخدام الشخوص، ببنية رمزية منتمية إلى طرفي نقيض بينهما انسجام رهيب، يتحقق على النص، باعتبار “ابن سينا” وما يحوم في فلكه عائد إلى التراث والقدامة، بينما التلاميذ وهواتفهم، والفايسبوك، والواتساب… نتيجة لحداثة حَتّمَتْ على الإنسان قطائع مع تاريخه، وجغرافيته، ولغته كذلك.
وبناء على ذلك، استُعملت اللغة العربية بوصفها العنصر المتهاوي مع وفود الإلكترونيات التي اصطنعت لنفسها في المجتمعات العربية، لغة ذات حروف لاتينية وتوظيف ينبني على اللهجات، مما يضعف القوة التداولية للعربية في المجال الإلكتروني. وهذا ما حدا بالنص، للاعتماد على العربية لإبراز موقف النص، وإيضاح مقدرة العربية على الإقبال على تحديات العصر، وقابلية التجريب المسرحي في حد ذاته على استخدام لغة الضاد، لكون أغلب النصوص في الفترة المعاصرة، تُقبلُ على الدّوارج.
تحت هاجس ضعف الملكات اللغوية للمتعلمين، استند النص على تهجين الألفاظ وجعلها الوافد الغريب على العربية وليس العكس، فجعل الحوار خفيفا على اللسان، ولم يتركه منفصلا عن الإرشادات المسرحية، وإنما ربط بينهما، وجعل الحوار في خدمة الحركة:
“ابن سينا: …(يحوم حول الشخصيات الأخرى يتحسسها، وهي جامدة في وضعيتها الأولى، ثم يخاطب الكتاب مستغربا) َخّبرِني، ما هذِه التَّماثِيل الَّتي أنْتُم َلهَا َعاكِفون..؟
الكتاب: (يبتسم) إنها لَيست َتمَاثِيل، إِنها تِكنُولُوجيَا الاتِّصال َوالمْعلُوميَّات، َعالمنَا َ الوْرِدي الْمدِهش!..
ابن سينا: التكنولوجيا؟؟ َوَما التِّكنُولُوجيَا؟ َهل ِهي طَعامكم الّذي َتأْكلُون..؟”[10]
عمد المؤلف إلى استراتيجية الاقتباس من النص القرآني، والشعر العربي المدرج ضمنيا في الحوار، باعتبار امتلاك ناصية اللغة العربية لا تتم إلا بهما، ويكثر توظيفهما في النص إلى حد كبير: “ما هذِه التَّماثِيل الَّتي أنْتُم َلهَا َعاكِفون/ إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت/ سنداويكم بالتي كانت هي الداء/ تَــتَساقط علـى الأرض كالفَـراش المبــثُوث/ طَعامكم الّذي َتأْكلُون…”[11] ونتيجة لذلك، تصبح العربية في متناول الطفل الذي يجد فيها انسيابية حوارية، وليس كيانا متعاليا، لا مكان له داخل المجتمع إلا في المسجد أو الخطب الرسمية.
غالبا ما يُقصَدُ بالنصوص البيداغوجية، تلك التي تشتغل على مواضيع بسيطة، وقيم مشتركة، ومثل عليا… متكررة الورود في المقررات الدراسية، ولكن من شأن هذا الحكم المسبق، أن يتغير في هذه المسرحية التي تحاول أن تَصْعَدَ بالتجريد لدى الطفل إلى مستويات تتدرج في هذه المسرحية لتكسب المتعلم “التخييل الفكري”*[12] الذي يمكنه من تجاوز القراءة العابرة، ويعينه على اكتشاف الفراغ المتروك أمامه بقصد، ليغدو المسرح بالفعل “مدرسة للمتفرج” كما تقرُّ آن أوبرسفيلد Ann Ubersfeld.
4- من التربية الجمالية إلى التربية الإنسية
تَعْتَبِرُ التربية الإنسية أن للإنسان وجودًا مرحًا يتعلم من خلاله، ويدرك ذاته، والعالم وما وراءه باعتباره لعبة، ونتاجا لها، وجزء من لعبة بشرية كبرى، وكونية، ومتعالية. ولما كانت علوم التربية المعاصرة على حد تعبير إدغار موران “لا تعلمنا كيف نحيا إلا جزئيا فحسب، وتبتعد، وتتجاهل الحياة، ومشاكلها، وتركز الحديث على المعارف الجافة. فإن القفزة التكنولوجية، والاقتصادية، ستتقوى بوتيرة تجعل التربية كذلك، تسعى إلى الرفع من الكفايات السوسيو-مهنية، عوضا عن الكفايات الوجودية التي تعين على إحياء، وتأهيل الثقافة، والمداخل الحيوية للتعليم.”[13]
لا ريب أن مناقشة قضية، تشكل هاجسا لكبار فلاسفة القرن العشرين على أرضية مسرح بيداغوجي، يسعى إلى إفهام الأطفال مسألة غَاية في التعقيد، صعبة على المستوى النظري، إلا أن هذا النص استطاع عمليا، وبجسارة أن يخلق فضاء للتربية على قيم الحكمة التي افتقدت في عالم هشٍ، مثل عالمنا الذي يتهاوى مع أي صدمة. إذ يخبرنا التاريخ المعاصر أن الإنسان قد دمر عمرانَ، وصناعةَ، الكرةِ الأرضيةِ، وقتل أخاه الإنسانَ، والحيوانات على السواء، في الحرب العالمية الثانية بسبب العقلانية المفرطة، وقد انشغل المسرح بهذه الحالة الوجودية اللامعقولة، فنحتَ رواد مسرح العبث، نصوصا عبرت عن تراجيديا الحياة المعاصرة. وفي المقابل، يخبرنا هذا النص عن وَهَنِ التكنولوجيا، والإلكترونيات، لأبسط الأسباب كما ورد في النص، كضُعْفِ صبيب شبكة الأنترنيت، أو انقطاع التيار الكهربائي مما يجعلها عرضة للتلف:
“ابن سينا: ما الذي أصابَها يا تُرى..؟
الكتاب: إنهُ الكهرباءُ أو الماءُ ُرَّبمَا، أو خلَل في الْبَرَمجَة!..
ابن سينا: (مستغربا) البرمجة؟ الكهرباء؟ وما الكهرباء..؟
الكتاب: ُ هذه المخلوقات تَتَنَفس بالكهرباء، فإذا غاب ْ عن دمائِها، أُصيبَت َ بفْقِر َّ الدم، ورأَيـتَها تَنتَفض مثل الدجاجة ْ المذبُوحة.. أَّما إذا صب عليها الماءُ هـي تُـوِّدعُ ُّ الدنْيَا إلى الأبد!..
التلفاز: (يدخل متألما) أَشعُر بالغَثَيَان، وبآلاَم َحادٍة في الْمَفاصِل َ والعضلاَت.. آه.. آه!..
التويتر: ِ (يتوجع) آه.. حبَاِلي َّ الصْوتِيةُ ُممَّزقَة.. عُصُفوري الأَزَرُق َلمْ يَعُد قَادراً َعلَى التَّغِريد والحَرَكة!”[14]
نستنتج إذن، أن هذا النص يقدم قيما إنسانية، ويبحث في قضايا كونية، فلا يقف عند إشكالية التراث والحداثة في العالم العربي، بل يتجاوزها إلى تبني، ما يطلق عليه إدغار موران “بالتربية الإنسية”. وبالرغم من كونه يعيش نوعا من الحنين الهرموسي Hermétique نحو حقبة الإنسيين الكلاسيين، غير أنه عندما ينظر في وضع التربية المعاصرة، يجدها متورطة في سيرورة تصدير الأيدي العاملة، بمعنى أنها صارت آلة إنتاج، ففقدت بذلك هدفها السامي، والمتمثل في أن نتعلم كيف نحيا، ونفكر، ونتبادل المعارف والخبرات… ذلك أن المرحلة المعاصرة عرفت شكلا من “الطلاق بين العلوم، والإنسانيات في كل المجالات والتخصصات، مما يجعل المعرفة تقنية،”[15] الأمر الذي يتعارض مع روح القيم الإنسانية، ويحدث أزمة في الثقافة، حيث إن المعرفة كون دائم الاتساع، ومتطلبات العالم المعاصر، لا تتجاوز سد الحاجيات المادية، والوظيفية المباشرة، وتبتعد عن الآداب، والتخييل، والتركيب الفكري. ولهذا السبب، يؤكد إدغار بأن “العلوم المعاصرة، قد تبعدنا بطريقة، أو بأخرى عن الحكمة،” [16]التي تسعفنا في فهم الذات، والعالم، والغير فهما أفضل.
نقف في تأمل عميق، في الحوار الأخير، وهو بمثابة قفل للنص، وربما نقول، بأن أي مُخرج سيقوم بالعمل على هذه المسرحية، لن يغير من أمره شيئا، لأنه يكتسي سلطة، توكل بمهمةِ إدماج الانفعالات النصية التي تهدئ إيقاع النص:
“ابن سينا: معـذرةً، لا أستطيع، لقد انتهت الحكاية، علي َ الآن ْ أن أعود إلى قَرِني ْ لأخِبرُهم ِبمَا سمعت وَرأَيْت.. (يتذكر) لقد خلّفت بغلي في الخارج جائعة، ربما هي الآن تعاتبني لأني لم أطعمها، سأنصرف الآن، أَستَوِدعُكم الله…”[17]
وإذا كانت الكتابات النقدية المسرحية، تؤكد أن حضور التراث بوعي في المسرح العربي قضية تحتاج إلى مزيد من البحث، فإن هذا المقطع الحواري، يعضد هذا الزعم، لأنه كشف عن مكامن خفية في استراتيجيات استلهام التراث، ورموزه، وتوظيفه في المسرح بوعي تربوي، ومنه ما قلنا في مجال التربية الإنسية المرتبطة بالبيئة التي تجلت في هذا المقطع الأخير الذي أثار فكرة تجاهل الناس لمحيطهم البيئي، فشخصية “ابن سينا” شعرت بتأنيب الضمير لأنه خلف بغلته في الخارج جائعة.
خاتمة
لا ننسى أن المسرح المغربي ليس غريبا عن استلهام التراث العربي، والاشتغال عليه، وليس الكاتب الدرامي سعيد موزون الذي ورث تقاليد مرجعية، بدأت منذ ملامح تأسيس ممارسة مسرحية مغربية على يد الرواد الأوائل: محمد القري، وعبد الصمد الكنفاوي، وأحمد الطيب العلج، وعبد الله شقرون، مرورا بعبد الكريم برشيد، والطيب الصديقي، ومحمد قاوتي، ومحمد الكغاط… ونعود للتأكيد على كون نص “ابن سينا في المدينة الإلكترونية”، قد جمع بين الاشتغال على التراث، والطموح التجريبي، والضرورة البيداغوجية.
على الرغم من كون الدراسة الكمية جزء من سوسيولوجيا المسرح، إلا أنها لا تمثل جل العناصر. وفي المقابل، فإن الدخول الثقافي للدول العربية، لا يعرف زخما في الإنتاج، لأسباب متعددة من أهمها الإشكالات المؤسساتية، والتحفيز المنعدم، وبخاصة في حالة الكتابة الموجهة للنشء. وعليه، فهذا النص إضافة نوعية، وترسيخ لمسرح تجريبي موجه للطفل، لكي لا يظل النص المسرحي المغربي نحو التنميط، ولا نسجن اهتمامات الأطفال في مواضيع لا تتماشى مع عصرهم.
دائما ما يسعى الطفل في قراءاته إلى اللذة الجمالية التي لا تتحقق مع نصوص المتعة التي تكسر أفق توقعه، فعالم الأنترنيت، والإلكترونيات، والذكاء الاصطناعي، ينتمي إلى اليومي والثقافة المركبة التي أصبحت تؤطر البنية الذهنية للأطفال، والشباب على حد سواء. ومن ثمة، فإن مسرحية “ابن سينا في المدينة الإلكترونية”، قد نعتبره نص لذة بالنسبة للمتعلم الذي سيحقق فيه ذاته جماليا، ومعرفيا، وبيداغوجيا.
يتضح بناء على القاعدة النظرية لازدواجية معيار الوظيفة المعرفية، والجمالية للنص الأدبي، وشمولية عوالم الإخراج المسرحي، أن النص الدرامي “ابن سينا في المدينة الإلكترونية” سيخضع لعملية مسخ Métamorphose مستمرة، لن تبقيه حبيس ما أُبْدِعَ له، أي مسرحُ الطفلِ، وإنما سيتجاوز ذلك إلى المسرح الجامعي. وذلك ما اتضح في تجربة الطالبتين زولا فاضل، وريم علي أحمد، اللتين اشتغلتا على إخراج المسرحية احتفالا باليوم العالمي للغة العربية، في الجماعة اللبنانية، بمدينة صيدا، يومه 18 دجنبر 2020، فأحالتا العرض إلى نزعة فكرية تواجه الدمار الذي تشهده اللغة العربية، في تماه تام مع النص المسرحي الذي يترك لمسته مهما تعددت أنماط الإخراج.
—–
الهوامش:
[1]– سعيد موزون: ابن سينا في المدينة الإلكترونية، الراصد الوطني للنشر والقراءة، طنجة، 2019، ص17، 18.
*- أضفنا عبارة المتفرج والمتعلم إلى القارئ، لأنه هو المقصود بهذا النص من جهة، ولكونه نتيجة تحويل الرسالة البيداغوجية من جهة أخرى، سواء بوصفه قارئا للنص، أو باعتباره فاعلا يساهم في خلق فرجة من خلال لعب أدوار متعلقة بإحدى الشخوص الدرامية، لكون هذا النشاط مرتبطا بشكل جدلي بالأنشطة التعليمية التعلمية التي تناط بها عملية القراءة التحليلية والتركيبية لأي نص مسرحي يتم تدريسه في المنظومة التربوية المغربية.
[2]*- أضفنا عبارة المتفرج والمتعلم إلى القارئ، لأنه هو المقصود بهذا النص من جهة، ولكونه نتيجة تحويل الرسالة البيداغوجية من جهة أخرى، سواء بوصفه قارئا للنص، أو باعتباره فاعلا يساهم في خلق فرجة من خلال لعب أدوار متعلقة بإحدى الشخوص الدرامية، لكون هذا النشاط مرتبطا بشكل جدلي بالأنشطة التعليمية التعلمية التي تناط بها عملية القراءة التحليلية والتركيبية لأي نص مسرحي يتم تدريسه في المنظومة التربوية المغربية.
[3]– سعيد موزون: ابن سينا في المدينة الإلكترونية، المصدر السابق، ص19.
[4]– سعيد موزون: ابن سينا في المدينة الإلكترونية، المصدر السابق، ص17.
[5]– Sylvain Auroux : Histoire des idées linguistiques, Ed. Pierre Mardraga, Liège-Bruxelles, 1989, p247.
[6]– مفهوم المرح Le ludique: يرجع هذا المفهوم إلى النطاق النظري لفلسفة ما بعد الحداثة، وبالتحديد انطلق من الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه الذي كتب ((العلم المرح((، وركز على اللعب وأهميته في التفلسف ذاته. أما ميلان كونديرا Milan Kundera فيعتبر النص الروائي، لعبة متاهية، وتناقض وجداني، ومجازفة عشوائية شجاعة من قبل المؤلف. وبالتالي، فهي تستحق لاعبا بهلوانيا يتميز بالخفة، ويستطيع أن يفكك سنن الارتياب. وقد استعملنا هذا المفهوم لكونه أساسيا في فلسفة التربية المعاصرة، ولأنه أساس اللعب الذي يؤطر جزء غير يسير من السيرورة الإنتاجية لهذا النص المسرحي.
[7]– سعيد موزون: ابن سينا في المدينة الإلكترونية، مصدر سابق، 23.
[8]– Gorges Zaragoza : Le personnage de théâtre, Ed. Armand colin, Paris, 2006, p145.
[9]– محمد الدريج: عودة إلى تعريف الديداكتيك أو علم التدريس كعلم مستقل، مجلة علوم التربية، دورية مغربية فصلية متخصصة، العدد السابع والأربعون، مارس-2011، الرباط، ص9.
[10]– سعيد موزون: ابن سينا في المدينة الإلكترونية، مصدر سابق، ص20.
[11]– م. نفسه، ص 20، 24، 32، 41،
[12]*- نقصد به التخييل الذي يساعد القارئ أن يفكر من خلال النص، وينمي ملكاته المعرفة عبر النص المسرحي، بما هو منطلق، ومساعد، وغاية في حد ذاته.
[13]– Edgar Morin : Enseigner à vivre, Manifeste pour changer l’éducation, Ed. Actes Sud, Paris, 2014, p22.
[14]– سعيد موزون: ابن سينا في المدينة الإلكترونية، مصدر سابق، ص33.
[15]– Edgar Morin : Relier les savoir pour prendre à vivre, Entretien, In : Les grands dossiers des sciences Humaines, N° 45, Décembre 2016/janvier-février, 2017, p70.
[16]– Id., p70.
[17]– سعيد موزون: ابن سينا في المدينة الإلكترونية، مصدر سابق، ص45.