الباحث عز الدين المعتصم
بصم القاص محمد الشايب على تجربة إبداعية متميزة تعد مقاربتها مغامرة كبيرة، لكن لذة المغامرة تكتسي أهمية بالغة، وتزداد أهميتها إذا انصبّت على تجربة تمثل الوعي بالذات أكثر مما في هذا العالم من هزّات واضطرابات. هذا العالم الذي شهد تطورات سريعة وتغيرات جذرية أثرت على مختلف مناحي الحياة، مما حفز المبدعين على التفكير في تقديم حلول تلائم هذا التسلسل من الأحداث، وتساعد المرء على التأقلم ومواكبة الرّكب الحضاري والتّكنولوجي والمدني، من خلال اكتساب القدرات والمهارات التي تساعده على رفع التحديات التي تواجهه وتواجه مجتمعه. تماشيا مع هذا الوضع، ولج القاص محمد الشايب منعطفا حاسما أعلن من خلاله عن ميلاد مفاهيم جديدة أحدثت قطيعة إبيستمولوجية مع مفاهيم وموضوعات ظلت مهيمنة ردحا كبيرا من هذا الزمن. وفي هذا السياق تحضر قصص «كماء قليل»(1) بحثا عن جماليات القصة التي قال فيها جمال الغيطاني «يا خوفي أن أكون مغرما بالبعيد». وعلى هذا الأساس يروم هذا المقال البحث عن كيفية اشتغال المعنى والكشف عن تجليات استدعاء التراث والتعبير عن الهوية الثقافية في قصص «كماء قليل» للقاص محمد الشايب.
1- جنس القصة بوصفه
1-1- هوية ثقافية
يعد العنوان عتبة نصية هامة تحفز القارئ على بناء فرضية ملائمة تعد مدخلا لقراءة مضامين النصوص. ولعل المتأمل في العنوان يجده يمتح بشكل كبير من المثل الشعبي الضارب بجذوره في أطناب التراث الغرباوي «كي الما الگليل» الذي يدل على الرعاية الكبيرة والعناية الفائقة بشخص عزيز. والماء القليل الذي يقصده القاص هو القصة التي أصبح من العسير القبض على مكوناتها. وما يعزز هذا الطرح قول السارد في قصة «كماء قليل»: «ظللتُ داخل مملكة الحلم، أتنقل بين أقاليم الدهشة حتى وجدتُ نفسي أمام سلسلة شاهقة من الحروف، استجمعتُ قواي، وقررتُ الصعود في مدارجها، كان لكل حرف باب، وكل باب مفتاحه كلمة مبدوءة بالحرف المستهدف بالفتح. فالحاء تفتحه كلمة «حب»، والراء كلمة «رقة»، والشين كلمة «شك»، والياء كلمة «يقين»، والفاء كلمة «فن»، والعين كلمة «عهد»، والميم كلمة «موت»، واللام كلمة «لعب»، والقاف كلمة «قدر»، والدال كلمة «دليل»، والنون كلمة «نجاة»، الغين كلمة «غرق» »(2).
يتّضح بجلاء أن القاص محمد الشايب قد تعامل مع التراث اللامادّي طبقاً لما يتناسب ورؤيته الفلسفية، دون التخلي عن الأمانة العلمية في الحفاظ على أصالة المصدر التراثي، محاولا ربط الذاتي بالموضوعي، وذلك لإكساب قصص «كماء قليل» بعداً إنسانياً، إذ حرص على تجديد تجربته الإبداعية وتوسيع دائرة الخلق والابتكار بتوظيف التراث برموزه المتباينة ودلالاته المختلفة (ماء قليل وصيد وثمين وحب ورقة وشك ويقين وفن وعهد وموت ولعب وقدر ودليل ونجاة وغرق …). مما يدل على وعي القاص بهذه المعاني وما تقدّمه لتجربته الإبداعية، مدركا، في الوقت ذاته، أهمية التنوع في مستويات خطابه السردي.
لقد عرفت القصة المغربية طفرة نوعية تجسدت في المتح من رصيد غني في الذاكرة الجماعية للناس، وذلك من خلال المزج بين تقنيات السرد الحديث والنوع التراثي، ويعد هذا التعامل الخلَّاق نوعا من التجريب الفني. وفي هذا السّياق يطالعنا في قصص ”كماء قليل” توظيف الرمز الثقافي الذي يجسده “الكاتب” الذي يعد مرآة لطبيعة المغاربة ومعتقداتهم، لكونه يعكس، بواسطة الإبداع، المواقف المختلفة، بل يتجاوز ذلك أحياناً ليقدم لهم نموذجاً يُقتدى به في مواقف عديده؛ وبهذا المعنى يسهم القاص إسهاما وافرا في تشكيل فلسفة المجتمع وقيمه، الأمر الذي جعلها محوراً أساساً في المتن القصصي. ومن هذا المنطلق يستوقفنا المقطع السردي التالي من قصة “الكاتب”: «أحيل على التقاعد قبل خمس سنوات، بعدما اشتغل مدرسا أربعين سنة، حين ترك التدريس، زاد إخلاصه وتفرغه للكتابة والكتب. كثيرون كانوا يسخرون منه، ويرون أنه كان بلا طموح، لا يعمل لدنياه ولا لآخرته، فهو الذي رفض الترشح للانتخابات في أكثر من مناسبة، وهو الذي رفض مرافقة زوجته لأداء فريضة الحج، وضيع كثيرا من فرص الترقي في مساره المهني، حتى أن زوجته كانت تلومه، بل تؤنبه، وسُمعتْ مرارا تصرخ في وجهه: «شنو قضيتِ بهاد الكتبة؟! الناس بْناتْ وعلاتْ، وْدارت ما يبان عليها، وانْتَ عايش فْ عالم آخر..، القراية والكتبة الليل وْما طال، وشكون كايقرا لك كَاع.. »(3).
يتبيّن أن الكاتب يمثل السّجل الذي يحفظ الذاكرة الفردية والجماعية من الزوال والاندثار، ويعبر عن الهوية الثقافية للمغاربة ويفصح عن قضايا المجتمع بتفاصيلها، وتكمن أهميته في كونه يساعد على إدراك ثقافة المجتمع وهويته الثقافية. لكن الأعمال الجليلة والنبيلة التي يقوم بها الكاتب من أجل التنوير يقابلها عامة الناس بالسخرية والازدراء مما يُشْعِر الكاتب بالاغتراب الثقافي داخل وطنه. بيد أن القاص محمد الشايب يولي أهمية كبيرة للكاتبين «زفزاف وبوزفور» اللذين ورث عنهما اللعب بالكلام في متن القصة. يقول السارد في هذا المعنى قاصدا زفزاف وبوزفور: «وفي عز عُزلتي، وأوج غربتي جاءا معا، طرقا بابي، فتحتُ، دخلا، لم يجلسا، ظلا واقِفَين، في عينيْهما تسبح أمواج، وعلى شفاههما تغني طيور. سألاني بصوت واحد عن مصير القلمين والأوراق، فنهضت واقفا، وغرقتُ في دهشتي، ولم أجب، فخرجا، وحلقا معا بعيدا في سماوات اللعب، وبقيتُ وحيدا»(4).
تشكل الرموز الثقافية (الكاتب، زفزاف وبوزفور) التي وظفها القاص في منجزه السردي، وسيلة من وسائل التعبير عن الذات والجماعة والتفاعل مع الطبيعة والناس والأحداث التاريخية. فالوعي بهذه الرموز الثقافية المغربية يسهم في التعبير عن الذاكرة الجماعية والوجدانية، ويسعف في خلق عمل إبداعي يحمل صفات العراقة، ويؤرخ لوجدان الجماعة في ماضيها وحاضرها بصورة تشمل جميع جوانب الحياة المتعددة والمتداخلة، خالقاً بذلك المتعة الذهنية والنفسية والفكرية للمتلقين. يقول السارد في قصة «زفزاف وبوزفور»: «لم يتكلما هذه المرة، ظلا يلعبان، وكأنهما لم يسمعا شيئا، فصحتُ بأعلى صوتي: إنهما يلعبان اللعب نفسه..، نظر إلي القائل نظرة يتطاير منها لهيب القسوة، وصاح: وسيرْ تلعبْ مع اقْرانك آ آ آ الدَّري راك باقي صْغيرْ..! فزفزاف مات، عفوا لم يمت، خُيل إلينا أنه مات مبكرا، وبكيناه، لكنه ظل حيا، يلقننا قواعد اللعب التي لا تُلقن. وبوزفور ظل وحيدا، يلعب وحيدا، ويحلق وحيدا، ويغني وحيدا، ويحلم وحيدا، ويضحك وحيدا، ويبكي وحيدا… »(5).
يتّضح أن لغة قصص «كماء قليل» تفصح عن رؤيا العالم لدى صاحبها بتعبير لوسيان غولدمان. الرؤيا الرامية إلى التمرد على الانهيار القيمي واستشراف الغد المشرق عملا برسالة زفزاف التي جسّدها محمد الشايب على أرض الواقع فغدا أكبر الفائزين وأعظم الرابحين، وإن كان يخال نفسه أكبر الراسبين والخاسرين. يقول السارد في رسالة زفزاف: «أتعلم، يا زفزاف، كم كانت الطوابير طويلة..؟! وكم كانت ممتلكات المغادرين الرافضين متنوعة..؟! وكم كانت الرسائل كثيرة..؟! لكن المدينة، كانت عادلة هذه المرة..! فورث كلٌّ منا ما حملته رسالته..، هناك من ورث الكثير، وهناك من ورث القليل، وهناك من ورث الأقل..، أما أنا الذي اخترتُ رسالتك، يا زفزاف، فلم أرث غير تيه وسهر وقسط يسير من المداد، وكنتُ أكبر الخاسرين..!»(6)
وفي إطار استدعاء الرموز الثقافية، نُلْفي القاص يستلهم الرمز الأنثوي «ميرا»، إذ تعد المرأة رحيق الإبداع، ففي ذكرها طلاوة، وفي قربها حلاوة. يقول السارد في قصة «ميرا»: «لا أدري لِمَ أطلقتُ اسم خالتي الحزينة، على طفلة رشيقة لا تكبر ولا تموت..؟! طفلة تتسلق كل الأغصان لتقطف تفاح السؤال، وتجري في كل الدروب لتقضي لياليها في منزل الشك. ميرا الطفلة تخدع العشاق وتتركهم، وميرا خالتي لم تتزوج سوى رجل واحد، لم تلد منه، الطفلة ليس لها إخوة كي تبكيهم، وخالتي فقدتهم جميعا، وظلت تبكي حتى جف نهر الحياة. لقالق التل بكت رفقة خالتي، وكذلك نهارات الصيف وليالي الشتاء، وابتلت بأحزانها حكايات النساء، وسارت مراثيها صحبة السائرين في كل الأرجاء».(7)
لقد استطاع القاص محمد الشايب أن يصور وجدان الشعب المغربي وأحاسيسه، ويعبر عن قضاياه الاجتماعية، كما يرصد حياته اليومية المعيشة، ويؤلف مدونة تتشكل من خلالها هوية الجماعة بقيمها وسلوكها ورؤيتها للعالم، كما يفصح عن هموم الذات ويُعْرِب عن مقومات الهوية المغربية.
خاتمة
استنادا إلى ما تقدّم من طرح، نستنتج أن قصص للقاص المغربي محمد الشايب تعبر عن الهوية الثقافية للمغاربة وتمثل أداة للتواصل والتفاعل بين المبدع والمتلقي؛ إذ وظف القاص التراث الثقافي توظيفا عذبا ينمّ عن ذوق جميل وخبرة بالصناعة الأدبية، محيطا بما يطبع مجتمعه، فعمل على تجسيد حياة المجتمع المغربي ومثّل مفارقات عديدة متجسّدة في الأصالة والمعاصرة، التراث والحداثة، هذا المجتمع الذي ينعم بالفضيلة ويشقى بالرذيلة، فيتأرجح بين الإرادة التي تدفع صاحبها إلى التشبث بمكارم الأخلاق وأفعال الخير، وبين الانجذاب القوي نحو مباهج الدنيا وزخرفها.
هوامش
- محمد الشايب، كماء قليل، منشورات الراصد الوطني للنشر والقراءة، طنجة، ط.1، 2022.
- المرجع نفسه، ص. 33.
- نفسه، ص. ص. 13- 14.
- نفسه، ص. 26.
- نفسه، ص. 26.
- نفسه، ص. 9.
- نفسه، ص. ص. 43- 44.